عدنان بن عبد الله القطان

3 رجب 1443 هـ – 4 فبراير 2022 م

——————————————————————–

الحمد لله عالم السر والنجوى، يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور؛ نحمده سبحانه ونشكره، ونتوب إليه، ونستغفره. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، فإن من اتقاه وقاه، ومن سار على نهجه نجّاه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

معاشر المسلمين: في سير الأوائل، دروس وعبر مواقفهم تقوي الإيمان وتصحح المفاهيم وتشحذ الهمم وتقوي العزائم، كلماتهم شموس مشرقة تضيء للسالكين الدرب والطريق.

تقرأ سيرهم فتأخذك الدهشة ويتملكك العجب كيف بلغ أولئك ما بلغوا؟ وكيف تسنموا ذرى المجد حتى سموا؟ والجيل المعاصر يخسر كثيراً حين يجهل سيرهم فيقطع صلته بهم رضي الله عنهم وأرضاهم، أو يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، من الصحب الكرام رضي الله عنهم. الأوائل كانوا بإيمانهم جبالاً راسية، وبسيرهم قمماً سامقة، كيف لا وقد بذلوا دماءهم وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم وخلدوا سيراً لا تضاهى، وسطروا مواقف لا تبارى، ولا ينكر فضلهم إلا من أعمى الله بصره وبصيرته، نقلب الصفحات، فنجد غزوة تبوك، التي وقعت أحداثها في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة، أي وقعت في مثل هذا الشهر الحرام. وتسوقك الأحداث إلى قصة كعب بن مالك، ذلك الصحابي الجليل الذي تخلّف عن غزوة تبوك فخلد القرآن الكريم هذه القصة العظيمة آيات تتلوها الألسن وتحفظها الصدور وتتأملها القلوب، نقف معها كما يرويها كعب رضي الله عنه، ثم نستلهم عبرها، ومع كل موقف نستلهم ما نستطيع من درس ونرسخ في نفوسنا أينع غرس. يقول رضي الله عنه: (وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهّز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقضِ شيئاً، فأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقضِ من جهازي شيئاً، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقضِ شيئاً، ثم غدوت ثم رجعت ولم أقضِ شيئاً، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني (فعلت) فلم يقدر لي ذلك.. التسويف ظاهرة جلية في قصة كعب بن مالك، وهي أكثر جلاءً في أنفسنا نحن المسلمين، فمشاغل الدنيا ووساوس إبليس تجعل المرء يسوف في أعمال الخير ويؤجل حتى تضعف همته وتثقل حركته فيفوتها وكلما غاص المرء في مشاغل الدنيا ازداد تعلقه بها فازدادت أثقالها، وصعب الخروج منها.

قال كعب: فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق (أي مطعوناً عليه بالنفاق)، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء. هذا هو حال المجتمع الأول، هبّ المسلمون جميعاً في سبيل الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق في المدينة إلا من نافق أو ممن عذر الله سبحانه إنها أمة الجهاد، أمة التضحية والبذل.

قال كعب رضي الله عنه: ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله: حبسه برداه ونظره في عطفه، (وهو إشارة إلى إعجابه بنفسه ولباسه) فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (مدافعاً عن كعب) بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً. فسكت رسول الله.

لم يسكت معاذ وهو يرى من يقع في عرض أخيه، فبادر بالإنكار، وهذا حق المسلم على المسلم في كل زمان ومكان ومجلس، أن يبادر لحماية عرض أخيه وتقديم حسن الظن، قال صلى الله عليه وسلم: (من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)

قال كعب بن مالك رضي الله عنه: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه راجعاً من تبوك حضرني همي وحزني، وطفقت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غداً؟ أمر محيّر، ماذا سيقول كعب للرسول صلى الله عليه وسلم؟ وبم يعتذر له؟ كيف سيخرج من سخطه؟ هل يكذب؟ كلا وحاشا، فلقد تربى في مدرسة النبوة، إذا كان سينجو في الدنيا من موقف عصيب بكلمة مزيفة وكذبة محرمة فما الذي ينجيه بين يدي من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، يوم تبلى السرائر، ويحصل ما في الصدور، يوم تشهد الألسن والأرجل والأيدي على العباد بما كانوا يعملون! لذا قال كعب وقد استشعر علم الله ومعيته واطلاعه: فأجمعت صدقه. فجئت وسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتبسم تبسُّم المغضب، ثم قال: تعال يا كعب.. فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلَّفك يا كعب؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ (أي أشتريت مركوباً) قلت: بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلاً، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه إني لأرجو عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك. فقمت.. صدق في القول ووضوح في الحديث وقوة في الإيمان وصلابة في الموقف، لقد اعترف كعب بذنبه، والاعتراف بالخطأ أساس الصلاح والإصلاح، لكن تثقل التوبة على الذين يكابرون ويؤتون لساناً من جدل على الزلل، وأفظع من هذا أولئك الذين يتحايلون لتحليل المحرمات.

 قال كعب: وسار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المتخلفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي.. كاد كعب أن يهلك بهذه النصيحة التي زينت له الباطل، وكم هي النصائح هذه الأيام على هذا المنوال.. 

وكان ممن تخلف وقال مثل ما قال كعب، مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، رضي الله عنهم وأرضاهم، ثم تأتي الفتنة ويشتد البلاء، يقول كعب: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا -نحن الثلاثة- من بين من تخلّف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.. هذا الهجر ليس كالهجر الذي فشا في المجتمع اليوم، فتقطعت الصلات وتدابر الأقرباء وافترق الإخوان لأسباب دنيوية ومصالح أرضية، هذا الهجر إذا زاد عن ثلاثة أيام فإنه يكون محرماً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا، ويُعْرِضُ هَذَا، وخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ.. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلام هؤلاء الثلاثة من بين سائر من تخلف دليل على صدقهم وكذب الباقين، فالمنافقون جرمهم أعظم من أن يقابل بالهجر. انتهى كلامه.

ثم يقول كعب رضي الله عنه: مشيت حتى دخلت بستان أبي قتادة -وهو ابن عمي وأحب الناس إليَّ- فسلمت عليه، فوالله ما رد عليّ السلام.

لقد أعرض المجتمع بأكمله عن ثلاثة أشخاص، الأخ والقريب والصديق في الأسواق وفي المسجد، بل في كل مكان لا يكلمهم أحد استجابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يجدوا الود الذي ألفوه والحب الذي عرفوه. ويا لها من مصيبة إعراض وإدبار ومقاطعة من المجتمع كله! ويا له من مجتمع بلغ الذروة في السمع والطاعة والرسوخ في التربية وامتثال الأمر، فها هو يتكاتف كله لمقاطعة الثلاثة واستجابوا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.. إن هجر المجتمع لأهل المعصية يهذب النفس ويوقظ الضمير، وهو عقوبة نفسية ووسيلة تربوية وسنة نبوية نتائجها حتمية مع أصحاب القلوب الحية، أما القلوب الميتة فلا تنفع بهجر ولا تستجيب لأمر. قال الإمام النووي رحمه الله: (استحباب هجران أهل البدع والمعاصي الظاهرة وترك السلام عليهم ومقاطعتهم تحفيزاً لهم وزجراً).

ماذا فعل كعب بن مالك أمام هذه الابتلاءات؟

لقد تجمل بالصبر، وتجلد في المصيبة، بل كان أجلد الثلاثة، كان يخرج ليشهد الصلاة ويطوف الأسواق، يصلي قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم- فيسارقه النظر، ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة، يقول كعب: فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه برد السلام عليّ أم لا؟. وبلاء آخر؛ يقول كعب: (حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم- يأتيني فيقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك.. وينبه الحسن البصري رحمه الله في هذه المناسبة إلى عظم أمر المعصية فيقول: يا سبحان الله! ما أكل هؤلاء الثلاثة مالاً حراماً، ولا سفكوا دماً حراماً، ولا أفسدوا في الأرض، أصابهم ما سمعتم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فكيف بمن يواقع الفواحش والكبائر؟ وبلاء آخر؛ يقول كعب: (فبينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدل على كعب بن مالك؟! فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إليّ كتاباً من ملك غسان، النصراني وكنت كاتباً، فإذا فيه: أما بعد: فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك). فقلت لما قرأتها: وهذا أيضاً من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرته). المفسدون يستغلون الأحداث والأزمات، ويتسللون في أوقات الوهن والضعف ليدفعوا بالمرء إلى الخيانة، لكنهم لا يصلون إلى من كان راسخاً في إيمانه وجبلاً في ثباته ككعب بن مالك، هل تردد كعب؟! هل ترك مجالاً للوساوس والهواجس؟! لقد كانت إجابة كعب صامتة لكنها قوية في مبناها معبرة في معناها، لقد أسجر الرسالة أحرقها وأسجر معها الضعف والتردد وكأنه يقول: الولاء التام لله، والبراءة التامة من أعداء الله، وفي حياة المسلم أمور لا مجال فيها للمداهنة والمهادنة والمساومة، بل ولا مجرد تفكير.

رضي الله عن كعب بن مالك وعن صاحبيه وعن الصحابة أجمعين واحشرنا معهم تحت لواء سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سبيل الله ورضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فيا أيها المسلمون والمسلمات: وإكمالاً لهذه القصة العظيمة، يقول كعب:  رضي الله عنه، فَلَبِثْتُ بعد ذلكَ عَشْرَ لَيَالٍ، فَكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِن حِينَ نهى رسول الله عن كَلَامِنَا، قالَ ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلَاةَ الفَجْرِ صَبَاحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، علَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِن بُيُوتِنَا فَبيْنَما أَنَا جَالِسٌ علَى الحَالِ الَّتي ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَّا، قدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأرْضُ بما رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى علَى سَلْعٍ (أي صعد على جبل سلع بالمدينة) يقولُ بأَعْلَى صَوْتِهِ: يا كَعْبَ بنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ، قالَ: فَخَرَرْتُ سَاجِداً وَعَرَفْتُ أَنْ قدْ جَاءَ فَرَجٌ. قالَ: فَآذَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ النَّاسَ بتَوْبَةِ اللهِ عَلَيْنَا، حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الفَجْرِ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا) ما أعظم فرحة المؤمن بالتوبة بعد البلاء والصبر، سجد كعب رضي الله عنه شاكراً نعم ربه عليه ويقول: فَلَمَّا سَلَّمْتُ علَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قالَ: وَهو يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ ويقولُ: أَبْشِرْ بخَيْرِ يَومٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ قالَ: فَقُلتُ: أَمِنْ عِندِكَ؟ يا رَسُولَ اللهِ، أَمْ مِن عِندِ اللهِ فَقالَ: لَا، بَلْ مِن عِندِ اللهِ وَكانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، إذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ، كَأنَّ وَجْهَهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذلكَ منه)

الله أكبر! من عند الله، يا له من فخر لا يدانيه فخر. لقد ملأت الفرحة مشاعر كعب وأحاسيسه، فقال معبراً عن صدق توبته: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّ مِن تَوْبَتي أَنْ أَنْخَلِعَ مِن مَالِي صَدَقَةً إلى اللهِ وإلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: أَمْسِكْ بَعْضَ مَالِكَ، فَهو خَيْرٌ لك) لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم بكعب من نفسه، بل إنه أرحم من الأمة كلها من نفسها. ولنا أن نتساءل: ما الذي نجى كعب بن ملك؟ يجيب رضي الله عنه فيقول: يا رسول الله: إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقًاً ما بقيت. ويقول: فَوَاللَّهِ ما عَلِمْتُ أنَّ أَحَداً مِنَ المُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ اللَّهُ في صِدْقِ الحَديثِ، مُنْذُ ذَكَرْتُ ذلكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ إلى يَومِي هذا، أَحْسَنَ ممَّا أَبْلَانِي اللَّهُ به، وَاللَّهِ ما تَعَمَّدْتُ كَذِبَةً مُنْذُ قُلتُ ذلكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، إلى يَومِي هذا، وإنِّي لأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيما بَقِيَ. قالَ: فأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لقَدْ تَابَ اللَّهُ علَى النبيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في سَاعَةِ العُسْرَةِ مِن بَعْدِ ما كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ منهمْ ثُمَّ تَابَ عليهم، إنَّه بهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، وعلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حتَّى إذَا ضَاقَتْ عليهمِ الأرْضُ بما رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عليهم أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ،  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) لقد أمَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ بالصِّدقِ، وجعَلَ النَّجاةَ في الدُّنْيا والآخِرةِ مَنوطةً به، حتَّى وإنْ بَدا في ظاهِرِ الأمْرِ أنَّ فيه الهَلاكَ لصاحِبِه، وحرَّمَ الكَذِبَ، وجعَلَه طَريقَ الخُسرانِ والبَوارِ في الدُّنْيا والآخِرةِ، حتَّى وإنْ بَدا في ظاهِرِ الأمْرِ أنَّ فيه النَّجاةَ.

إن الصدق وإن كان فيه مشقة فإن عاقبته خير. فهؤلاء الثلاثة صدقوا في قولهم وصبروا على بلائهم، فلما تاب الله عليهم هانت عليهم آلام البلاء، ونسوا هموم المعاناة، إن الصدق نجاة، وهو خير من كذب يغمرك فيه محدثك بمعسول الألفاظ التي تنطوي على خداع في الكلمات وحيلة في الأسلوب وزيف ونفاق.

اللهم اجعل لنا عندك قدم صدق، وأدخلنا مدخل صدق، وأخرجنا مخرج صدق، واجعل لنا من لدنك سلطاناً نصيراً…

اللهم أجعل عملنا خالصاً لوجهك الكريم، وارزقنا الصدق في القول، والإخلاص في العمل.

اللهم أخرج من أصلاب هذه الأمة رجالاً ونساء صادقين مخلصين يقولون الحق وبه يعدلون. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين إنك سميع مجيب الدعاء

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.

اللهم كن لإخواننا المستضعفين المضطهدين في كل مكان ناصراً ومؤيداً ومعيناً.

اللهم أحفظ المسجد الأقصى، وفك الحصار عنه واحفظ أهله، واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.

اللَّهُمَّ بَلِّغْنا رَمَضَانَ وَأَعِنّا عَلَى صِيامِهِ وَقِيامِهِ عَلَى الوَجْهِ الّذِي يُرضْيِكَ عَنّا يا سميع الدعاء

اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبواب القبول والإجابة، اللهم تقبَّل طاعاتنا، ودعاءنا، وأصلح أعمالنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتب علينا، واغفر لنا ولوالدينا ولموتانا وموتى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

       خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين